نعم، سأشجع الجزائر من أجل مصر. لأن الهدف الحقيقى عندى ليس كرة تسكن الشباك، وإنما حب يسكن القلوب. لأن الجزائر أهم عندى من مليون مباراة كرة قدم. لأن الشعب من الشعب والدم من الدم والروح من الروح. لن أسمح للصبية الصغار أن ينقضوا الغزل وينسفوا الحب ويركلوا التاريخ. ومصرُ تاريخها- وإن لم يعلموا- أطول بكثير من تسعين دقيقة.
لا تغضبوا يا سادة حينما أقول إنكم لا تعرفون مصر. حينما تختزلون وطنا فى حجم مصر فى مباراة كرة قدم، حينما يحرككم (الأخوان حسن) بعد أن كنا نحرك العالم بأسره، حينما تنسون زخم الثورة الجزائرية، ووهج المشعل العربى الذى حملته مصر، وتنسون حرقة الجزائر على هزيمة سبعة وستين، وذهاب بومدين للسوفيت وقد طار عقله، وإهانته لهم فى عقر دارهم، وإلقاءه بمئات الملايين فى وجه بريجنيف الذى قال وهو يرتجف من الغضب: الاتحاد السوفيتى ليس بائعة هوى أو تاجر سلاح تلقى الدولارات فى وجهه، ورفع الاجتماع ثم عاد صاغرا أمام غضبة بومدين الصارمة ليلبى كل طلباته.
حينما تنسون دماء جزائرية سالت على أرض القنال، أكثر من ثلاثة آلاف جندى وضابط، وألف دبابة وخمسين طائرة حديثة شاركت فى معركة الكرامة عام ثلاثة وسبعين، حينما تنسون المصير المشترك والعدو المشترك والحزن المشترك، ثم تجرون وراء كره قدم يتقاذفها لاعبون مترفون يركلون الكرة (ومعها قلوبكم)، ينتصرون أحيانا ويُهزمون غالبا، فأنتم يا سادة لا تعرفون مصر.
مصر!، تعالوا أحدثكم عن مصر!
جميلتى، محبوبتى، سيدة القارات الخمس التى تملك مفاتيح العالم، البلد الذى تكرر ذكره فى القرآن. ثغرة التاريخ إلى الزمن الأول. رمز النيل الذى عذبه الشوق إلى الأرض السمراء، يطوى آلاف الأميال معربدا فى أرض الجان، يزحف كثعبان أسطورى حتى يدرك بلاد النوبة، حينئذ يدور رأسه من ترجيع ناي، من أنشودة نوبية حزينة، من شيخ ذابل العينين يعلم حفيده درس العشق الأول.
مصر بوابة الفراعنة تلوح مسلاتها على مسيرة سبعة آلاف عام، الطبيعة البكر والإنسان المصرى القديم الذى شيد المسلات وصنع المعجزات، معابد الأقصر وفيلة والكرنك، حيث يبلغ الرجل الطويل القامة ارتفاع إصبع التمثال، وتكاد دقة النحت تصور الهواء الذى تنفسه الفرعون الملك. الوجوه الحالمة المرسومة على الجدران تتطلع للسماء. الأجساد الفتية تتوثب عزما وحبا للحياة، حسن المصريات ودلالهن وعشقهن للزينة، وألوان طازجة كأنها مزجت لتوها، وفى قلب الجبل المهيب -تحت سطح الأرض بعشرات الأمتار- قبور ملوك سادوا الأرض وملكوا البحر وروضوا النيل.
مصر الحب، القانون الحاكم فى هذا البلد، والروح التى تسرى فيه، وجعلتنا نحتمل مرارة العيش وظلم الولاة. وبعد يوم حافل بالتعب تضحك العذارى على ضفاف النيل، ويصطاد العجائز السمك والقمر الساكن فى قاع الترعة.
مصر المآذن العالية والقباب الفضية الناظرة إلى النيل (الحليوه الأسمر). والنجوم الزاهرة فوق سطح الهرم ترنو للمعز بن عبدالسلام يستصرخ المصريين للحاق بقطز لحرب التتار. صلاح الدين يحشد جيوشه لحرب الصليبيين. القرون تتوالى فى سرعة، كلها تحمل نفس الرائحة، الأزقة القديمة والبخور المعتق فى كل الزوايا، ونظرة دلال سددتها المليحة من وراء اليشمك، والبيوت المسكونة بالحنين.
سفن نابليون تقترب، هواء البحر ينفخ عباءة محمد كريم، نلسون يدخن الغليون وقد لوحته الشمس. مراكب الأسطول تجوب البحر بحثا عن سفن نابليون المختبئة فى أبى قير. محمد على وطموحات لا سقف لها، رفاعة الطهطاوى يستخلص الذهب من تلخيص باريس، الخديو إسماعيل وأحلام أجهضت، عبدالله النديم وعبدالعزيز جاويش، عرابى يستنقذ الكرامة من غطرسة الولاة، محمد عبده يشعل القنديل، مصطفى كامل يتبتل فى عشق المحروسة، محمد فريد يبيع ألف فدان من أجلها، سعد زغلول يُلقن الاحتلال درس الكبرياء، ومختار يستخلص الحياة من قلب الحجر، ونهضة مصر تبعث من جديد.
فن وأدب، ثقافة وروح جديدة. العقاد يعكف على مشروعه العملاق، طه حسين المبصر وسط العميان، توفيق الحكيم رائد المسرح الذهنى، أحمد أمين يؤرخ للحياة العقلية، أحمد شوقى يسمع عبدالوهاب فيذهله الطرب، أم كلثوم تعتصر المنديل ومعه قلوبنا، بيرم التونسى يحول العامية إلى سبائك ذهب، نجيب محفوظ يرتاد المقاهى القديمة ويعيد تشكيل خارطة الأدب، عبدالناصر يحلق منفردا فى سماء الكرامة، صلاح جاهين يشدو برباعياته، وعبدالرحمن الأبنودى يتتبع الحكايات القديمة.
بذمتكم، بلد كهذا تختزلونه فى مباراة كرة قدم؟!