لو لم أكن مصري لوددت أن أكون .... ، دعوني أفكر قليلا ، هل أكون خليجي أنتمي لإحدي دول النفط الغنية ؟ أم أنتمي لإحدي دول العالم الأول تلك الدول التي تحتكر التقدم و الرفاهية وتدوس علي دول العالم الثالث و تذل حكامها في مقابل ما تلقيه لهم من معونات لشعوبها الغلبانة ؟
ربما ما يناسبني فعلا أن أكون تركياً ، تركيا بعد أن عادت لإسلامها صارت نموذجا رائعا ، يجمع بين أفضل ما في الحضارتين الإسلامية والغربية ، الأتراك لا يعرفون الازدواجية والصوت العالي والانفعال العاطفي الدائم ، يتميزون بالتفكير المنطقي الهادئ والتواضع وهي الصفات التي يحبها الله ورسوله ( الحلم والأناة ) كما أن التزامهم هو التزام سلوكي قبل أن يكون مظهري .
ولكن رغم احترامي وإعجابي بالنموذج التركي إلا أن جذوري ليست هناك ، إذا تأملنا مفهوم الوطن نجده يحمل أكثر من معنى ويضرب في أعماق النفس لأكثر من مستوى ، يشعر بذلك من يقوم بعد غياب بزيارة قريته البعيدة مسقط رأسه ، فيشعر بالحنين وتداعي الذكريات ، رغم أن القرية فقيرة وربما ليست مريحة إلا أنه يشعر أنه يعثر علي أيامه مبعثرة بين جنباتها ، وعندما يمر في شوارعها الملتوية غير الممهدة يكاد يسمع صدي صوته ورجع ضحكاته أيام الصبا ، وفي حقولها الصابرة يري نفسه طفلا راكضا مع أقرانه أو نائما تحت التوته علي حجر أبيه بعد أن أكل معه وجبة شهية من الجبن القديم وخبز أمه والباذنجان الطازج وشرب معه كوبا صغيرا من الشاي ، مهما تناول بعد ذلك من طعام في أفخر فنادق العالم تظل وجباته الريفية تحجز مكانها المميز في ذاكرته حتى أن مجرد استدعاءها وتذكرها يبعث شلالا من الحنين والشجن .
كثيرا ما حيرني التساؤل : أين تذهب الأيام ؟ هل تتساقط علي أرض الوطن لتجعلنا أكثر ارتباطا به ؟ ، أم نمنحها لمن نحب فتتشابك جذورنا فيه؟ أم تلتف خيوطها الحريرية حولنا بشكل لا فكاك منه ؟ هل تعطينا الأيام الاستقرار والأمان في مقابل أن نتنازل تدريجيا عن حريتنا في البحث عن خيارات جديدة؟
من ينسي رفاق اللعب و جو الأسرة ووجه الأم ؟ ومن ينسي أيام رمضان وليلة العيد؟
زملاء الدراسة والأساتذة الذين تركوا لديك بصماتهم ، ذكرياتك الخاصة مع شريك الحياة والأبناء والأهل ، كل تلك الأحداث تحفر أخاديد داخل أعماقك وتربطك أكثر بالوطن الذي تمتد بداخله جذورك كل يوم ، الوطن هو كل نجاحاتك وإخفاقاتك وهو لحظات السعادة وأوقات المعاناة ، هو الأهل والأحباب ، حتي ترابه يحمل رفات أحباءك الراحلين .
الوطن ملكية مشتركة لكل أبناؤه ولديهم جميعا فرصتهم لعلاجه من أمراضه وأوجاعه ، وليس من حقهم أن يشترطوا أن يكون مثاليا ليحبوه ، الابن يحب أباه مهما كانت عيوبه ويحنو علي أمه حتى في حالة الضعف والمرض ، يقول الشاعر
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
كيف يمكن أن تساعد وطنك ؟ أن تكون أنت إنسانا ناجحا معطاء في موقعك أيا كان ، أن تساعد غيرك كلما استطعت ، أن تحاول نشر ثقافة إيجابية تقوم علي فكرة الإصلاح دون يأس أو كلل ، ألا تعتقد أن كل واجبك هو النقد القاسي والسخرية فأنت بذلك تخرج الطاقة الفعالة بداخلك دون جدوي وتنشر حولك سحائب اليأس ، أن تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد ، أن تخلص في عملك وتبدع فيه ، أن تعرف أنه دائما غدا يوم آخر نرجو أن يكون أفضل .
لولم أكن ... لوددت أن أكون .... ، يبدو أنها فرضية غير منطقية ، لأن الوطن الذي ولدت فيه هو جزء من قدري وإطار يحكم حياتي وأعيش من خلاله ، وفي الحقيقة لا يمكننى إلا أن أكون مصري